كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: إدخاله فيما حمله من عظيم الأمر وهو النبوّة، وإخراجه منه مؤديًا لما كلفه من غير تفريط. وقيل: أراد رب أدخلني الصلاة وأخرجني منها مع الصدق والإخلاص والقيام بلوازم الحضور، أو أدخلني في مجاري دلائل التوحيد وأخرجني من الاشتغال بالدليل إلى ضياء معرفة المدلول. وقال صاحب الكشاف: أدخلني القبر إدخالًا مرضيًا وأخرجني منه عند البعث ملقى بالكرامة. يدل على هذا التفسير ذكره على أثر ذكر البعث {واجعل لي من لدنك سلطانًا نصيرًا} حجة ظاهرة تنصرني بها جميع من خالفني أو ملكًا وعزًا ناصرًا للإسلام وذويه.
ثم شرفه باستجابة دعائه بقوله: {وقل جاء الحق} أي الإسلام {وزهق الباطل} اضمحل الشرك من زهقت نفسه إذا خرجت {إن الباطل كان زهوقًا} غير ثابت في كل وقت وإن اتفقت له دولة وصولة كانت كنار العرفج.
عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وحول البيت ثلثمائة وستون صنمًا لقبائل العرب. صنم كل- قوم بحيالهم- فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: جاء الحق وزهق الباطل. فينكب الصنم لوجهه حتى ألقاها جميعًا وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة- وكان من قوارير صفر- فقال: يا علي ارم به. فحمله رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد فرمى به فكسره، فجعل أهل مكة يتعجبون ويقولون: ما رأينا رجلًا أسحر من محمد فلا جرم كذبهم الله وصدق نبيه بقوله: {وننزل من القرآن} {من} للبيان كقوله: {من الأوثان} [الحج: 30] أو للتبعيض أي ننزل ما هو شفاء. وهو هذا القرآن أو بعض هذا الجنس. وقيل: زائدة ولما كانت إزالة المرض مقدمة على السعي في تكميل موجبات الصحة ذكر كون القرآن شفاء من الأمراض الروحانية كالعقائد الفاسدة والأخلاق الدميمة ومن الأمراض الجسمانية أيضًا لما في قراءته من التيمن والبركة وحصول الشفاء للمرض كما قال صلى الله عليه وسلم: «من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله» ثم بين أنه رحمة للمؤمنين لما فيه من كيفية اقتناص العلوم الجليلة والأخلاق الفاضلة التي بها يصل الإنسان إلى جوار الملائكة المقرّبين بل إلى جناب رب العالمين، ولما كان قبول القابل شرطًا في ظهور الأثر من الفاعل فلا جرم {لا يزيد} القرآن {الظالمين} الذي وضعوا التكذيب مقام التصديق والشك موضع الإيقان والاطمئنان {إلا خسارًا} لأن البدن غير النقي كلما غذوته زدته شرًا فلا يزال سماع القرآن يزيد المشركين غيظًا وحنقًا ويدعوهم ذلك إلى زيادة ارتكاب الأعمال القبيحة وهلم جرًا إلى أن يدفع الله مكرهم ونكرهم.
ثم ذكر قبح شيمة الإنسان الذي جبل عليه فقال: {وإذا أنعمنا على الإنسان} أي على هذا الجنس بالصحة والغنى.
وعن ابن عباس أنه الوليد بن المغيرة. وفي التخصيص نظر إلا أن يكون سبب النزول {أعرض ونأى بجانبه} النأي البعد، والباء للتعدية أو للمصاحبة وهو تأكيد للإعراض، لأن الإعراض عن الشيء هو أن يوليه عرض وجهه أي ناحيته. والنأي بالجانب أن يلوي عن عطفه ويوليه ظهره، أو أراد الاستكبار لأن هذا الفعل من شأن المستكبرين. ومن قرأ {ناء} فإما من النوء بمعنى النهوض مستثقلًا. وإما مقلوب كقولهم: راء في رأى. {وإذا مسه الشر} من مرض أو فقر {كان يؤسًا} شديد اليأس من روح الله. والحاصل أنه إن فاز بالمطلوب الدنيوي وظفر بالمقصود الدني نسي المنعم الحقيقي، وإن فاته شيء من ذلك استولى عليه الأسف حتى كاد يتلف أو يدنف، وكلتا الخصلتين مذمومة ولا مقتضى لهما إلا العجز والطيش وكل بقدر كما قال: {قل كل يعمل على شاكلته} أي كل واحد من الخلائق إنما يتيسر له أن يعمل على سيرته وطريقته التي تشاكل حاله التي جبل عليها من قولهم طريق ذو شواكل وهي الطرق التي تتشعب منه.
{فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلًا} لأنه الذي خلق كل شيء ورباه وهو عالم بخاصية كل نفس وبمقتضى جوهرها المشرق، أو المظلم سواء قلنا إن النفوس مختلفة بالماهيات، أو هي متساوية الحقائق واختلاف أحوالها لاختلاف أمزجة أبدانها، كما أن الشمس تعقد الملك وتلين الدهن وتبيض ثوب القصار وتسود وجهه.
ولما انجر الكلام إلى ذكر الإنسان وما جبل هو عليه لزم البحث عن ماهية الروح فلذلك قال: {ويسألونك عن الروح} ذكر المفسرون في سبب نزوله أن اليهود قالوا لقريش: سلوا محمدًا عن ثلاث: عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح. فإن أجاب عن الأولين وأبهم الثالثة فهو نبي لأن ذكر الروح مبهم في التوراة، وإن أجاب عن الكل أو سكت فليس بنبي. فبين لهم القصتين وأبهم أمر الروح إذا قال: {قل الروح من أمر ربي} أي مما استأثر الله بعلمه فندموا على سؤالهم. ومن الناس من طعن في هذه الرواية لوجوه منها: أن الروح ليس أعلى شأنًا من الله تعالى، وإذا كانت معرفة الله تعالى. ممكنة بل حاصلة فما المانع من معرفة الروح: ومنها أن هذه المسألة تعرفها الفلاسفة والمتكلمون فكيف يليق بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يقول إني لا أعرفها مع وفور علمه وكمال معرفته؟ وكيف يصح ما روي عن ابن أبي بريدة لقد مضى النبي صلى الله عليه وسلم وما يعلم الروح. ومنها أن جعل الحكاية دليلًا على النبوة غير معقول. ونحن نتقصى عن المسألة فنقول: السؤال عن الروح إما أن يكون عن حقيقته أو عن حال من أحواله ككونة متحيزًا أو غير متحيز، أو قديمًا أو حادثًا أو باقيًا بعد البدن أو فانيًا، وعلى تقدير البقاء ما سعادته وشقاوته. وبالجملة فالمباحث المتعلقة بالروح كثيرة. وقوله تعالى: {وسألونك عن الروح} ليس فيه ما يدل على تعيين شيء من هذه المسائل، فالأولى أن يحمل السؤال على السؤال عن الحقيقة لأن معرفة حقيقة النبي أهم وأقدم من معرفة حال من أحواله، فيكون قوله: {قل الروح من أمر ربي} رمز إلى أن الروح جوهر بسيط مجرد حصل بمجرد الأمر وهو قوله: {كن فيكون} [يس: 82] لأن الآية دلت على أن الروح من أمر الرب. وقال في آخر سورة يس {إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون} [يس: 82] ينتج أن الروح إذا أراده فإنما يقول له كن فيكون، ومنه يعلم أنه شيء مغاير للأجسام المتوقعة على المادة والمدة وللأعراض الموقوفة على الأجسام، وأنه بسيط محض وإلا لتوقف على انضمام أجزائه.
ولا يلزم من كون الروح كذلك كونه مشاركًا للباري تعالى في الحقيقة، فإن الاشتراك في اللوازم لا يقتضي الاشتراك في الملزومات. وليس في الآية دلالة على حدوث الروح إلا بحسب الذات، بل لمستدل أن يستدل بها على قدمه بالزمان إذا لو كان متوقفًا على الزمان لم يكن حاصلًا بمجرد الأمر والمفروض خلافه.
ولما كان أمر الروح مشتبهًا على الناس كلهم أو جلهم ختم الآية بقوله: {وما أوتيتم من العلم إلاَّ قليلًا} وذلك أن الإنسان وإن كمل علمه وكثرت معرفته بحقائق الأشياء ودقائقها فإن ما علم يكون أقل ما لم يعلم، فإذا نسب معلومه إلى معلومات الله المشار إليها بقوله: {وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} [لقمان: 27] {قل لو كان البحر مداد الكلمات ربي} [الكهف: 109] كان كلا شيء فإنه لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي أصلًا. وقال بعض المفسرين: هو خطاب لليهود خاصة لأنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: قد أوتينا التوراة وفيها الحكمة وقد تلوت: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرًا كثيرًا} [البقرة: 269] فقيل لهم: إن علم التوراة قليل في جنب علم الله، وذكر الإمام فخر الدين الرازي أن قوله: {قل الروح من أمر ربي} يدل على أن الروح حادث لأن الأمر قد جاء بمعنى الفعل. قال تعالى: {وما أمر فرعون برشيد} [هود: 97] أي فعله وقال: {ولما جاء أمرنا} [هود: 94] أي فعلنا. وإذا حصل الروح بفعل الله وتكوينه كان من المحدثات. ثم ذكر حجة أخرى على حدوث الروح مستنبطة من قوله سبحانه: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا} ووجه تقريرها أن الإنسان بل روحه في مبدأ الفطرة خال عن العلوم والمعارف، ثم لا يزال يحصل له المعارف فهو دائمًا في التبدل والتغير من النقصان إلى الكمال وكل متغير محدث. ومنع كلية هذه القضية عند الخصم مشهور على أن حمل وقت قلة العلم على أول الفطرة تخصيص من غير دليل، مع أن ظاهر الآية يدل على أن الإنسان وإن أوتي حظًا من العلم وافرًا، فإنه قليل بالإضافة إلى علم عالم الذات. وقيل: الروح المذكور في الآية هو القرآن الذي تسبب لحياة الروح كأن القوم استعظموا أمره فسألوا إنه من جنس الشعر أو من جنس الكهانة فأجابهم الله تعالى بأنه ليس من جنس كلام البشر وإنما هو كلام ظهر بأمر الله ووحيه وتنزيله.
وقيل: هو ملك في غاية العظم والشرف وهو المراد من قوله تعالى: {يوم يقوم الروح والملائكة صفًا} [النبأ: 38] ونقل عن علي عليه السلام أن له سبعين ألف وجه، ولكل وجه سبعون ألف لسان، لكل لسان سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها ويخلق الله من كل تسبيحة ملكًا يطير مع الملائكة يوم القيامة ولم يخلق الله خلقًا أعظم من الروح غير العرش، ولو شاء الله أن يبتلع السموات السبع والأرضين السبع بلقمة واحدة لفعل.
وأمثال هذه الروايات مسرحة إلى بقعة الإمكان ولا وجه للاعتراض عقلًا عليه. وقال الحسن وقتادة: هذا الروح جبرائيل كأنهم سألوا الرسول كيف جبرائيل في نفسه وكيف قيامه بتبليغ الوحي؟ فأمر بأن يقول الروح من أمر ربي أن نزوله بأمر الرب كقوله: {ما نتنزل إلا بأمر ربك} [مريم: 64] وقال مجاهد: الروح خلق ليسوا بالملائكة على صورة بني آدم لهم أيد وأرجل ورؤوس يأكلون كما يأكل الناس، وليسوا بالناس. وزيفت هذه الأقوال بأن صرف السؤال عن الروح الإنساني الذي تتوفر دواعي العقلاء على معرفته إلى أشياء مجهولة الوجود مستنكر.
واعلم أن للعقلاء في حقيقة الإنسان اختلافات كثيرة، وإذا كان حال العلم بأقرب الأشياء إلى الإنسان وهو نفسه هكذا، فمنا ظنك بما هو الأبعد! ولنذكر بعض تلك المذاهب فلعل الحق يلوح في تضاعيف ذلك فنقول: العلم الضروري حاصل بوجود شيء يشير إليه كل واحد بقوله: أنا فذلك المشار إليه إما أن يكونه جوهرًا مفارقًا، أو جسمًا هو هذه البنية، أو جسمًا داخلًا فيها أو خارجًا عنها أو عرضًا. أما المتكلمون فالجمهور منهم ذهبوا إلى أن الإنسان هو هذا الهيكل المحسوس، وزيف بأن البدن دائمًا في التغير والتبدل. والمشار إليه بأنا واحد من أول العمر إلى آخره، وبأن الإنسان غير غافل عن نفسه حين ما يكون ذاهلًا عن أجزاء بدنه، بأن النصوص الواردة في القرآن والخبر كقوله عز من قائل: {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أمواتًا بل أحياء} [البقرة: 154]، {يا أيتهالنفس المطمئنة ارجعي} [الفجر: 28] {النار يعرضون عليها غدوًا أو عشيًا} [الزمر: 46] وكقوله صلى الله عليه وسلم: «أولياء الله لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار»، «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران» وقوله في خطبة طويلة: «حتى إذا حمل الميت على نعشه رفرف روحه فوق النعش ويقول يا أهلي ويا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي جمعت المال من حله وغير حله فالهناء لغيري والتبعة عليّ فاحذر وامثل ما حل بي» توجب مغايرة النفس للبدن، وبأن جميع فرق الدنيا من أرباب الملل والنحل يتصدقون عن موتاهم يزورونهم ويدعون لهم بالخير، وبأن الميت قد يرى في المنام فيخبر عن أمور غائبه وتكون كما أخبر، وبأن الإنسان قد يقطع عضو من أعضائه ويعلم يقينًا أنه هو الذي كان قبل ذلك، وبثبوت المسخ في حق طائفة من أهل الكتاب وليس المسخ إلا تغيير البنية مع بقاء الحقيقة، وبأن جبرائيل قد رؤي في صورة دحية، وإبليس رؤي في صورة الشيخ النجدي، فعلم أن لا عبرة بالبنية، وبأن الزاني يزني بفرجه فيضرب على ظهره، فعلم أن المتلذذ والمتألم شيء آخر سوى العضوين، وبأنا نعلم ضرورة أن العالم الفاهم للخطاب إنما هو في ناحية القلب ليس جملة البدن ولا شيئًا من الأعضاء.
أما إن قيل: الإنسان جسم هو في داخل البدن. فاعلم أن أحدًا من العقلاء لم يقل بأن الإنسان عبارة عن الأعضاء الكثيفة الصلبة التي غلبت عليها الأرضية كالعظم والغضروف والعصب والوتر والرباط والشحم واللحم والجلد، ولكن منهم من قال: إنه الجسم الذي غلب عليه المائية من الأخلاط الأربعة، أعني الدم بدليل أنه إذا خرج لزم الموت. ومنهم من قال: إنه الذي غلب عليه الهوائية والنارية وهو الروح الذي في القلب، أو جزء لا يتجزأ في الدماغ، ومنهم من يقول: اختلطت بهذه الأرواح القلبية والدماغية أجزاء نارية مسماة بالحرارة الغريزية وهي الإنسان. ومنهم من قال: إذا تكوّن بدن الإنسان وتم استعداده نفذت فيه أجرام سماوية نورانية لطيفة الجوهر على طبيعة ضوء الشمس غير قابلة للتبديل والتحويل ولا للتفرق والتمزق، نفوذًا يشبه نفوذ النار في الفحم والدهن في السمسم وماء الورد في الورد. وهذا النفوذ هو المراد بقوله: {ونفخت فيه من روحي} [ص: 72] ثم إذا تولد في البدن من أخلاط غليظة منعت من سريان تلك الأجسام فيها، فانفصلت لذلك عن البدن فحينئذ يعرض الموت للجوهر.
وقال الإمام فخر الدين الرازي: هذا مما ذهب إليه ثابت بن قرة وغيره وهو مذهب قوي شريف يجب التأمل فيه فإنه شديد المطابقة لما في الكتب الإلهية من أحوال الحياة والموت. قلت: أما نفوذ الجوهر النوري في البدن كنفوذ الدهن في السمسم فمسلم، وأما أنه أجرام وأجسام ففيه نظر، واعلم أنه لم يذهب أحد إلى أن الإنسان جسم خارج عن البدن، ولا إلى أنه عرض حال في البدن إلا ما نقل عن الأطباء، وعن أبي الحسين البصري من المعتزلة، أن الإنسانية عبارة عن امتزاجات أجزاء العناصر بمقدار مخصوص وعلى نسبة معلومة تخص هذا الصنف. ومن شيوخ المعتزلة من قال: الإنسان عبارة عن أجزاء مخصوصة بشرط كونها موصوفة بأعراض مخصوصة هي الحياة والعلم والقدرة. ومنهم من قال: إنه يمتاز عن سائر الحيوانات بشكل جسده وهيئة أعضائه. والصحيح من المذاهب عند أكثر علماء الإسلام- كالشيخ أبي القاسم الراغب الأصفهاني والشيخ أبي حامد الغزالي، من قدماء المعتزلة معمر بن عباد السلمي، ومن الشيعة الشيخ المفيد رضي الله عنه، ومن الكرامية جماعة، ومن الفلاسفة الإلهيين كلهم- أن الروح الإنساني جوهر مجرد ليس داخل العالم الجسماني ولا خارجه ولا متصلًا به ولا منفصلًا عنه، ولكنه متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف كما أن إله العالم لا تعلق له بالعالم إلا على سبيل التصرف والتدبير، ومهما انقطعت علاقته عن البدن بقي البدن معطلًا ميتًا، واستدلوا على هذا المطلوب بحجج منها ما اختاره الإمام فخر الدين الرازي وهي لو كان الإنسان جوهرًا متحيزًا لكان كونه متحيزًا عن ذاته المخصوصة إذ لو كان صفة قائمة بها لزم كون الشيء الواحد متحيزًا مرتين ولزم اجتماع المثلين.
وأيضًا لم يكن جعل أحدهما ذاتًا والآخر صفة أولى من العكس. وأيضًا التحيز الثاني إن كان عين الذات فهو المقصود، وإن كان صفة لزم التسلسل، وإذا كان التحيز عين ذاته لزم أنه متى عرف ذاته عرف تحيزه لكنا قد نعرف ذاتنا مع الجهل بالتحيز والامتداد في الجهات الثلاث وذلك ظاهر عند الاختبار والامتحان، وإذا كان اللازم باطلًا فالملزوم منتفٍ وعورض بأنه لو كان الإنسان جَوهرًا مجردًا لكان كل من عرف ذاته عرف تجرده وليس كذلك. وأجيب بالفرق بين التحيز- وهو صفة ثبوتية- وبين التجرد وهو صفة سلبية، ومنها أن الشيء الذي يشير إليه كل واحدًا بقوله: أنا واحد بالبديهة، ولأن الغضب مثلًا حالة نفسانية تحدث عند محاولة دفع المنافي مشروطًا بالشعور بكون الشيء منافيًا. فالذي يغضب لابد أن يكون هو بعينه مدركًا، ولأن اشتغال الإنسان بالغضب وانصبابه إليه يمنعه من الاشتغال بالشهوة والانصباب إليها. فعلمنا أنهما صفتان مختلفتان لجوهر واحد إذ لو كان لكل منهما مبدأ مستقل لم يكن اشتغال أحدهما بفعله مانعًا للآخر، وأيضًا شيئًا فقد يكون الإدراك سببًا لحصول الشهوة، وقد يكون سببًا للغضب، فعلمنا أن صاحب الإدراك بعينه هو صاحب الشهوة والغضب. وأيضًا النفس لا يمكنها أن تتحرك بالإرادة إلا عند حصول الداعي ولا معنى للداعي إلا الشعور بخير يرغب في جذبه أو بشر يرغب في دفعه، وهذا يقتضي أن المتحرك بالإرادة هو بعينه المدرك للخير والشر واللذيذ والمؤذي والنافع والضار، وهو المبصر والسامع والشام والذائق واللامس والمتخّيل والمتفكر والمشتهي والغاضب بوساطة آلات مختلفة وقوى متغايرة. وإذا ثبت ذلك فلو كانت النفس عبارة عن جملة البدن كان للكل أثر واحد، ولو كانت جزءًا من أجزاء البدن كانت قوة سارية في جميع أجزاء البدن، والوجود بخلاف الكل فحصل اليقين بأن النفس شيء مغاير لكل البدن ولكل جزء من أجزائه. ومنها أن الاستقراء يدل على أحوال النفس بالضد من أحوال الجسد لأن الجسم إذا قبل شكل التثليث مثلًا امتنع أن يقبل حينئذ شكل التربيع ولا كذلك حال النفس، فإن إدراك كل صورة يعينها على إدراك ما عداها ولذلك يزداد الإنسان فهمًا وذكاء بازدياد العلوم. وأيضًا كثرة الأفكار توجب قوة للنفس وتستدعي استيلاء النفس على الدماغ وقد تصير أبدان أرباب الرياضة في غاية النحافة والهزال وتقوى نفوسهم بحيث لا يلتفتون إلى السلاطين وأصحاب الشوكة والقوة، ومما يختص بهذه الآية التي نحن في تفسيرها أن الروح لو كان جسمًا منتقلًا من حالة إلى حالة لكان مساويًا للبدن في كونه متولدًا من أجسام متغيرة من صفة إلى صفة، فحيث سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح كان الأنسب أن يقول: إنه جسم كان كذا ثم صار كذا وكذا كما ذكر في كيفية تولد البدن أنه كان نطفة ثم صار علقة ثم مضغة إلى آخره.